في غمرة الاضطراب السائد على الأجواء العالمية، حيث تسود العولمة، وحيث أصبح العالم بأسره عبارة عن قرية صغيرة يتأثر كل مَن فيها بأية صغيرة أو كبيرة تحدث ضمن إطارها، يجد الأهل، المربّي بشكل عام، صعوبة متزايدة في تربية الطفل، راشد المستقبل.
في الواقع، لقد أفقد الاختلاف شبه الجذري الذي أصاب نمط الحياة المعاصرة إنسان اليوم معظم القواعد والقوانين والقيم (الاجتماعية والأخلاقية والدينية والفكرية...) التي كان يستقي منها أصول تصرّفاته ومراجعها لكن دون تقديم البديل له عنها، مما اضطرّه لبذل جهد فردي متزايد بهدف تحقيق عملية الاختيار الحر والواعي المفروضة عليه للتكيّف مع بيئته الاجتماعية.
وقد أصاب هذا الاختلاف، بالدرجة الأولى، مفهوم الطفولة الذي شهد اختلافاً موازياً للتغيرات والتطورات الحاصلة على الصعيد الحياتي: فلقد تغيّر مفهوم «براءة الطفولة» المعتبرة كفردوس أرضي مستقل عن مشاغل الحياة ومتاعبها، ليصبح مفهوماً ديناميكياً متطوراً تختلف مقوماته باختلاف مرحلة العمر، التي يمر بها الإنسان، ككائن بشري: فالمقومات أصبحت، اليوم، إعدادية - تدريبية بعد أن كانت حدسيّة - تلقائية، ولابد للمربّي المعاصر من احترامها إن شاء تأمين الإطار التربوي اللازم للطفل كي يصبح كائناً اجتماعياً.
لكن هذا المربّي (الأهل، بشكل خاص) يواجه اليوم، وبشكل مواز للوقائع الدائمة التجدد على الخط التربوي، العديد من الإشكاليات التربوية، التي تعترض مهمته كمربٍّ، تأتي في مقدمتها كيفية نقل القواعد الاجتماعية (علاقته كفرد مع القانون الاجتماعي بوجه خاص) إلى هذا الطفل. هذه المسألة لم يتم طرحها منذ عقود، لا بل منذ قرون ، إذ كانت هذه العلاقة مع الطفل علاقة قوّة تندرج ضمن إطار ثقافي - اجتماعي متكامل حيث عليه الطاعة، وحيث أذى الجسم لم يكن غائباً. تغيّر هذا الواقع، شيئاً فشيئاً، بعد ثورة مايو 1968 التي شهدت تحركات الطلاب في مدينة باريس ضد الاخلاقيات القديمة بشكل خاص، فأصبح الحوار مفضّلاً، والعلاقة علاقة ثقة، وتفسير ما هو مطلوب من الطفل واجباً وعلاقة القوة مع الطفل مرفوضة.
لكن المشكلة كمنت في أن ممارسة هذا النمط التربوي تطلّبت المزيد من الوقت، من التعرّف على الطفل ومن التفاعل بين الأهل والمدرّسين: ذلك أمرّ أكثر إنسانية وبناء لنمو الطفل وتطوّره، لكن يصعب تحقيقه، في الواقع، فهم البعض أن مبدأ احترام الطفل، الآخر والقواعد الاجتماعية الذي تمّت المناداة به كبديل عن التسلّط السائد سابقاً يعني أن لهذا الطفل كل الحقوق مقابل القليل من الواجبات.
على الطفل، ركيزة المستقبل، تعلّم كل ذلك كي يصبح راشداً سوياً وعضواً فاعلاً في مجتمعه، يشكّل هذا التعلّم صلب العملية التربوية التي تبدأ ضمن الإطار العائلي ثم تُستكمل ضمن إطار المدرسة والمجتمع الأكبر.
ما المقصود بالتربية؟
إنها عملية تبادل حقيقي بين المربِّي والمربَّى حيث يتربّى الآباء وينضج كيانهم كوالدين من خلال علاقتهم التربوية بأبنائهم، وهي ضرورية، إذ دونها، من غير الممكن لصغير الإنسان الذي يولد غير مكتمل، حتى على المستوى البيولوجي، أن ينمو ويتطور. ولقد قيل عن حق «إن الأبوّة والأمومة صيرورة دائمة»، مما يعني احتمال أن تتطوّر مواقف الوالدين، سلباً كما إيجاباً، تبعاً لعلاقتهما مع الطفل.
فالمواقف الإيجابية تكمن، عموماً، في مدى إدراك الأهل لمقومات مسئوليتهم التربوية الجسيمة، وهي تفهّمهم للمعاني الكامنة وراء مشاكل الأبناء فيتمكنون، إذ ذاك، من النفاذ إلى كنه المعاناة الحميمة التي يعيشها هؤلاء الأبناء ويصبح موقفهم، بالتالي، بمنزلة نمط سلوكي عام يساعدهم، لا على مواجهة المشاكل وضبطها فحسب، بل، خصوصاً، على تبنّي موقف حسن الإصغاء والتعاطف والتفهّم المعد كموقف اتصالي: إيجابي وفعّال بين البشر.
وعلى العكس، تبدو المواقف السلبية على ارتباط وثيق بغياب مناخ أسري تتصف علاقة الوالدين ضمن إطاره، تبعاً لوصف الطفل، كونها تفتقر للتماسك، للتناغم، للحماية، للعطف، وللإحساس بالطمأنينة، وحسب وصف هذا الطفل، بدا أن هذه الأسرة آذته (وأحياناً بدرجة مرتفعة جداً) معتقدة أنها تساعده فشكّلت، بذلك، عائقاً في طريق نموّه السويّ بدلاً من أن تعمل على توجيهه وتربيته. هذا ما رشح عن البحوث التي حققناها ضمن إطار مجتمعنا، وعن ملاحظاتنا العيادية - العلاجية. وقد بدت هذه المواقف ذات ذيول وانعكاسات نفسية غاية في السلبية على طفلنا وعلى بنية شخصيته المتكاملة، من أهمها: اضطراب تكيّفه مع بيئته، تدنّي احترامه وتوكيده لذاته، نشوء اضطرابات نفسية متنوعة لديه.. إلخ.
أما مقومات المسئولية التربوية الملقاة على عاتق الأهل تجاه الطفل، فالمقصود بها: إحاطته بالحب، معرفة الإصغاء إليه والتحاور معه، أخذ الوقت، إبداء المشاعر، وقايته من المخاطر (الداخلية والخارجية)، دفعه باتجاه الاستقلالية، تقبّل الصراع والتشجيع:
إحاطته بالحب
يعني هذا تقبّله كما هو وإظهار ذلك له. فالطفل / المراهق يحتاج، كي يكبر، لهذه الطمأنينة الضرورية لنموّه، لتعزيز ثقته بنفسه وللتعرّف على نقاط الضعف والقوة لديه بخاصة وأن الأهل يعبّرون عن حبّهم، أحياناً، بشكل سيئ. لكن، كيف يتم تأمين الحب؟ أفضل طريقة مباشرة لإظهار ذلك له تكمن في التجاور، الدفء والاتصال المباشر به (كحك ظهره بلطف مثلاً، أو توجيه ضربة لطيفة على كتفه.. إلخ، يعرف الأطفال جيداً ماذا يعني ذلك).
ومع الأكبر سناً، قد يأخذ الاتصال أشكالاً أخرى: لايزال المراهق - فتى وفتاة - بحاجة لأن يأخذه الأهل بين ذراعيهم كي يطمئن، حتى وإن أبدى رفضه لذلك. من المهم، عندئذ معرفة التقاط اللحظات المناسبة والاستفادة منها.
ثم إن منح الطفل بعض الوقت، الاهتمام أو تعزيته، تعتبر بمنزلة أشكال أخرى من حيث إظهار الأهل حبّهم له، ومن المهم جداً أن يقولوا له إنهم يحبّونه وإنهم فخورون به فلا يقتصر ذلك على المناسبات، حيث يحصل الطفل على علامات جيدة، أو يطيع الأوامر أو.. فحسب، مثلاً.
لكن إحاطته بالحب لا تعني أنه لا يحق للراشد وضع حدود أو تحديد ممنوعات لولدهم (طفل/مراهق) بل على العكس إذ، في الحياة كما أثناء اللعب، هناك قواعد لابد من احترامها، إنما يجب عدم الإفراط في إصدار الأوامر والاكتفاء بالضروري منها، وتجنّب التحريم والمنع ما أمكن وعدم اللجوء إليهما إلا حين تقتضي الضرورة ذلك. كل ذلك يساعد الطفل على تقبّلهما لأنه يعلم، عن طريق الخبرة، أن هذا التحريم هو وليد اعتبارات وجيهة لا وليد موقف والدي عام.
وحين يتم تثبيت هذه الحدود. لابد لهم، كأهل، من احترامها لتعزيز مصداقيتهم بنظر الطفل: فإعطاؤهم توجيهات وأوامر لا تكون مطابقة لتصرّفاتهم الفعليّة يضيّع الولد بين واقع امتثاله لأوامرهم هذه وواقع محاكاته لتصرّفاتهم الحياتيّة، بخاصّة وأن الوالدين يشكّلان مثالاً أعلى يقتدي به. شكّل ذلك، في الحقيقة، السبب الجوهري الذي دفع بطفلنا في طريق الضياع والتذبذب (هذا ما تبيّن لنا في ضوء تفاعلنا مع عائلاتنا وعبر البحوث التي قمنا بتحقيقها)، فاحترام ما نفرضه كأهل (أي أن يكون سلوكنا متلائماً مع ما نطلبه من الطفل) يعزّز مصداقيتنا ويمنح الطفل الشعور بأننا نأخذه على محمل الجد.
والأوامر يجب أن تُعطى بلهجة حواريّة حازمة لا تحت شكل أوامر جامدة - تسلّطية كي لا يؤدّي تقيّد الطفل بها إلى شلّ مبادرته الشخصية، ولأن الحوار، وحده، يدفعه للإحساس بأنّ ما يقوم به هو نتاج خياره الحر والشخصي. ولدى إصدار الأوامر الموجّهة إليه، يجب محاولة تقييم شخصية الولد. لطالما لفت انتباهنا استفحال العناد عند العديد من الأطفال حين كان الأهل يتوعدّونهم بعبارات لا تخلو من التحقير.. المرفقة أحياناً بالضرب، لكنهم سرعان ما كانوا يلجأون لسلوك مغاير (أي تنفيذ ما يُطلب منهم) لدى توجّه المربّي نحوهم بروح من التقييم لذاتهم ولكيانهم.
وحين يخالف الطفل قاعدة معيّنة، من المهم أن يقوم المربّي - الراشد برد فعل حازم ودون مناقضة نفسه فالطفل يشعر بالطمأنينة إن احترم الأهل والأشخاص الآخرون المكلّفون برعايته القواعد نفسها (المنطق نفسه)، حتى وإن اختلفت أنماط تطبيقهم لها، فقد لا يكفي، أحياناً، قول «لا» أو توجيه تنبيه واضح، إذ تفرض الضرورة تحقيق قصاص (عقاب) معيّن، وهنا ينبغي: أن يأتي هذا القصاص مباشرة بعد سلوك الطفل الذي يفهم معنى العقاب المنطقي، أن يتم شرح السلوك الخاطئ (فيفهم الطفل نوع الخطأ الذي ارتكبه)، وإن يتم التركيز على أن السلوك الذي قام به الطفل هو السيئ وليس هو كشخص.
وفي مجال العقاب، أيضاً، لابد للأهل أن يحترموا بعض القواعد، يأتي في مقدّمتها الابتعاد، ما أمكن، عن العنف واستخدام القوّة (الضرب أو العنف النفسي كالتحقير أو استخدام الكلمات النابية..). فالقول «لا تربية من دون إكراه «لا يعني استخدام العنف، مهما كان نوعه، بل استخدام الحزم والحسم المتّسمين بالحب والسلطة «أي عدم اعتماد التساهل المفرط أو، على العكس، التسلّط».
ثم، لابد من احترام رأي الطفل إن كان محقاً، بخاصّة وأن العديد من المواقف التي يتبنّاها تنطلق من اعتزازه بأهله ورغبته في أن يكونوا الأفضل..، مع حسم الأمر بشكل حازم إن تمادى هذا الطفل في موقفه، خصوصاً إن بدا هذا الموقف ناجماً عن رغبته في إخضاعهم.
الإصغاء له
ويعني الاهتمام به والسهر على فهم ما يشغل باله: فالطفل أو المراهق المستغرِق في عملية النمو والكِبر وإيجاد مكانه في العالم، يكتشف كل يوم تجارب واكتشافات جديدة. ولإعطاء كل ذلك معناه، فهو يحتاج إلى أذن أهله الصاغية، لذا، على كل عائلة إيجاد - وبشكل منتظم - الفرص الملائمة للتحاور معه، تحاوراً قد يأخذ شكل نصائح عائلية أو شكل لحظات طقسية (أي تتكرّر) خلال وجبات طعام مشتركة أو قبل النوم أو.. إلخ، ومع الأصغر سناً، من الممكن إحلال عادة المناقشة في أوقات معيّنة يراها الأهل مناسبة.
التفرّغ له
ويعني ذلك اللعب، المحادثة، القراءة، اكتشاف العالم مع الطفل.. إلخ، فالطفل يتعلّم كمّاً من الأشياء عبر النشاطات العائلية، وعلى الأهل الاستفادة منها قدر الإمكان. كثيرون هم الأطفال والمراهقون الذين عبّروا عن تمنّيهم تمضية وقت أطول مع أهلهم. ويمكن تحقيق ذلك بفضل مثل هذه النشاطات المشتركة.
لكنّ تكريس الوقت اللازم للطفل أو المراهق لا يعني، بالضرورة، القيام بنشاطات مكلفة، فالأطفال يقيّمون كثيراً الأنشطة البسيطة المشتركة بينهم وبين الأهل (كالقيام معاً بنزهة في الغابة، حضور برنامج معين ومناقشته معاً، تخصيص وقت معيّن للمناقشة والحوار.. إلخ) لأنها، بنظرهم، مناسبات مهمة لقضاء الوقت معاً.
وفي مجرى الحياة اليومية، يحتاج الطفل أو المراهق للاهتمام وللوقت: يمكن أن يجمع الأهل، هنا، بين المفيد والمسلّي أو المُسِر كالطلب منه، على سبيل المثال، مساعدتهم في نشاطات (منزلية أوغير منزلية) يقدّمونها له كمهمات مثيرة للذّة، يتقاسمونها ويُحرّرون لها فترات كانت تكرّس لحضور التلفزيون، مثلا.. ذلك أمر يقدّره الطفل أو المراهق كثيراً.
ثم إن انتباه الأهل للطفل يفرض نفسه، بشكل خاص، حين يحتاج هذا الأخير إليهم: حين يجد صعوبة في إتمام واجباته أو حين يتعطل دولاب دراجته.. مثلاً. لكن، تجدر الإشارة هنا لوجوب عدم إحساس الأهل الذين لا يملكون الوقت الكافي للاهتمام بأطفالهم بسبب واجباتهم المهنية بالذنب: فنوعيّة الوقت الذي يقضونه إلى جانب طفلهم، لا مدّته، هو الأمر الأهم، وبإمكان الجدود، الأقارب أو الأصدقاء أو.. التعويض عن الوقت المتبقّي.
هذا، ويعتبر العديد من الأهل أن رسم الحدود والالتزام بها يشكّل المهمة الأكثر أهمية، لكن الأكثر صعوبة، بخاصّة وأن الطفل والمراهق هما «أبطال» في فن اختبار صبرهم وتماسكهم كوالدين، يفرض رسم هذه الحدود نفسها، في الحقيقة، لسببين: لحماية الطفل من المخاطر الداخلية (في المنزل) ومن مخاطر العالم الخارجي، ولأن القواعد التي يفهم معناها تؤمّن له الإحساس بالطمأنينة.
مساعدة الطفل على إبداء مشاعره
الحب، الفرح، الحزن، الهمّ، الغضب.. كلّها مشاعر تشكّل جزءاً من الحياة العائلية، والأطفال يعبّرون عن مشاعرهم بأشكال شديدة التنوّع: يقوم البعض بملاطفات في حين يقدّم آخرون رسماً حقّقوه، إلى جانب آخرين يعجزون عن القيام بأي تعبير انفعالي.. إلخ.
ومن المهم للطفل، لسير نموّه بشكل جيّد، فهم هذه المشاعر وتعلّم كيفية إدارتها، كما لابد لهم من إخراجها (التفريج عنها)، أكانت سلبيّة أم إيجابيّة، مع الاحتفاظ طبعاً بقواعد التهذيب، لابد للأهل من مساعدتهم على تحقيق ذلك، فالزمن الذي كان يقضي على الصبيان ألا يبكوا وعلى الفتاة ألا تغضب قد ولّى. أيجد الراشدون أن مظاهر تعبير الطفل عن مشاعره هي بغير مكانها؟ بإمكانهم تعليمه كيفية تعديلها وضبطها، مع الانتباه دائماً: لوجوب أن يترافق ذلك مع إفهامه بأن سلوكه، لا شعوره أو شخصه، هو غير ملائم، لوجوب أخذ كل طفل على محمل الجديّة، ولوجوب الأخذ بالاعتبار أن تأثّره بالكوارث (الكبيرة والصغيرة) يختلف عن ذلك المميّز له كراشد. وأفضل استجابة أوليّة قد يقومون بها، في هذا الإطار، تكمن في رد فعلهم الهادئ، على أن تُتبع بشرح ما يمكنه فعله لتعديل مشاعره.
ينبغي التنويه، هنا، لواقع غاية في الأهمية، يفضّل بعض الفتية الاحتفاظ بما يؤثر فيهم لأنفسهم، وعلى الأهل الانتباه لكيفية التعامل مع ذلك: فإن اختلف سلوك الطفل أو المراهق بشكل محسوس عمّا كان عليه سابقاً، فعليهم البحث عن السبب الكامن وراء ذلك وإرساء جو من الثقة بينهم وبينه، إذ حتى الطفل الخجول أو المنطوي على ذاته، يجب أن يتمكن من البوح عمّا يقلقه.
في عالم المشاعر، أيضاً، يتعلّم الصغار من الكبار، بإمكان الأهل، لا بل عليهم، إظهار مشاعرهم وتفسيرها بكلمات يفهمها الطفل، فهو يملك هوائيات تجعله يلتقط أي شيء يحدث، وما يزعجه هو إحساسه بأن هناك شيئاً ما يحدث لكنّ أهله لا يحدّثونه عنه، من المعلوم أن الأهل، كما الطفل، ليسوا بمنأى عن غضب يكون بغير موضعه، ومن المهم أن يعتذروا عن ذلك، فالاعتراف بخطأ تم ارتكابه لا ينم عن ضعف، فلقد قيل «الاعتراف بالخطأ فضيلة».
وقايته من المخاطر (الداخلية والخارجية)
يتعرّض الطفل، في مجرى حياته اليومية، لشتّى أنواع المخاطر: الداخلية (في المنزل، مثلاً، حيث قد يلعب بالكبريت ويحرق البيت، قد يوقع على نفسه أشياء ثقيلة أو يلعب بالسّكين فيؤذي نفسه.. إلخ)، والخارجية (بخاصّة مخاطر الطريق: لابد من معرفة أن هذه المخاطر تشكّل، في مرحلة ما بين 15-25 سنة، السبب الأوّل المؤدّي للوفاة في أيامنا الحاضرة).
كيف يتحدّث الأهل عن كل ذلك مع الطفل أوالمراهق؟ ذلك أمر معقّد إذ من غير الممكن ذكر الموضوع بالطريقة نفسها مع طفل في الثالثة وآخر في التاسعة أو مع مراهق في السادسة عشرة من عمره.
فضلاً عن ذلك، يجب ألا ينسوا أن الطفل لا يدرك، كالراشد، تلك المخاطر التي قد يتعرّض لها: فالرؤية والسمع، كما والقدرة على التركيز وإدراك سرعة السيارات وأن ما يقوم به محفوف بالخطر تختلف عند الطفل عن تلك المميّزة للراشد.
والأهم من كل ذلك يبقى واقع أنّ الأهل لا يقدّمون أنفسهم، في الكثير من الأحيان، مثالاً جيّداً يُحتذى به، بخاصّة على مستوى القيادة وعبور الطريق: نراهم، مثلاً، يعبرون من رصيف إلى آخر خارج إطار الحدود المرسومة وحين لا تكون إشارة المرور خضراء، أو يستخدمون الهاتف وهم يقودون.. إلخ.
دفعة باتّجاه الاستقلالية
لدفع الطفل باتجاه الاستقلالية، لابد من حبّه والتعرّف عليه، فهو «يحتاج إلى بعض لحظات من الحرية كحق له يديره على هواه» إذ نراه، منذ عامه الأول، يتجّه أكثر فأكثر نحو الاستقلالية: يريد الأكل لوحده، يبتعد (ينفصل) عن أهله لفترات تطول تدريجياً، وفيما بعد، يتمنّى إدارة أوقات فراغه وفترات خروجه ومصروفه الخاص.. إلخ. هذه الاستقلالية ضرورية له لتحمّل المسئوليات التي ستلقى على كاهله في المستقبل، لكنّ التساؤل التالي يفرض نفسه: كيف نفصل بين الإفراط بالتسامح والتساهل وبين التشجيع على الاستقلالية؟
تُكتسب الاستقلالية بشكل تدريجي ودون بذل جهد كبير، إذ يكفي أن يولي الأهل انتباههم للوقائع التالية، من بين وقائع أخرى: يتعلّم الطفل المنخرط في يوميات العائلة مجموعة من الأشياء لوحده إن تسنّى له مشاركة والدته أو والده بها سابقاً: ففي العمر المدرسي الابتدائي، يتوصّل الطفل لإدارة مصروف الجيب (كميّة متواضعة) المعطى له كل أسبوع، مثلاً، وفيما بعد، يتدبّر المراهق أمره مع كمية من المال تُعطى له كل شهر قد تساهم في دفع المصاريف المدرسية (شراء الملابس.. إلخ).
والأذواق تختلف من جيل لآخر بشكل مهم (إن من حيث أنواع التسلية أم من حيث المظهر الخارجي أو الأصدقاء أو تزيين الغرفة.. إلخ)، لذا، لابد من ترك مجال اختيار ذلك للطفل، بنفسه، طبعاً ضمن احترام قواعد عامّة يمليها الأهل.
وبالنسبة للتسامح نقول، يبلغ حدوده مع بداية تعرّض صحّة الطفل وراحته وإحساسه بأنه على ما يرام للخطر: فبدء المراهق بالتدخين أو بتناول الكحول... إلخ لا يدخل، مثلاً، ضمن إطار شروط النمو الجيّد، وخلال فترة البلوغ، وهي لحظة حاسمة في النمو، يطالب الفتية بدرجة كبيرة من الاستقلالية قد تصل لحدود التمرّد على الأهل. على الأهل، هنا، إفهامهم بأنه ليس هناك حريّة من دون حدود ومساعدتهم على اكتشاف طريقهم إذ يتعلّق الأمر بانتقالهم إلى سن الرشد، وإلا تعرّض هؤلاء الفتية فيما بعد، لعدم معرفة ماذا يفعلون وبالتالي، للضياع.
تقبّل احتمالات الصراع
الشجارات موجودة في كل العائلات ولا تحمل أي طابع درامي، وتوكيد الذات (قول كلا بشكل خاص) يعني، بالدرجة الأولى، إيجاد تسويات والتصالح مع الذات، كما تعني تمنّي الإقناع وإظهار القدرة على تحمّل الضغوط وعلى الاهتمام.
وهي، أي الشجارات، تسمح للطفل بتنمية طاقات اجتماعية مهمة لا يتم اكتسابها في الفراغ أو بفعل معجزة. فلكي تُحلّ الصراعات ولا تتسبب بضغوط إضافيّة، لابد من التقيّد ببعض القواعد، لكن، بشكل مواز، لابد من السماح له بإظهار مشاعر سلبية كالعدوانية أو العضب.. إلخ، يتم استيعابها وتوجيهها من قبَل الأهل بالاتجاه السليم دون اللجوء إلى التوبيخ أو التعنيف مثلاً. هذا ويحق للأطفال، مثلاً، الشجار فيما بينهم دون تدخّل الراشدين، لكن، حين تدور الشجارات، وبشكل غير عادل، على حساب الضعفاء يتدخّل الراشد، عند ذلك، لتهدئة الأمر والدعوة للاحترام المتبادل، بعاطفة لكن بوضوح كبير. لكن، إذا كان من المهم تقبّل شجارات محتملة، من المهم أيضاً، معرفة إصلاح ذات البين حين يكون الشجار القائم بين الأطفال من دون مخرج. وقد يتدخل الأهل محاولين، بشكل خاص، إصلاح عالمهم الصغير قبل النوم، مثلاً، كي يتمكّن كلٌّ منهم من النوم بهدوء.
التشجيع
كيف يتمكّن الأهل من تشجيع الطفل أو المراهق؟
يود الطفل أن يكون محبوباً كشخص وليس فقط للنجاح الذي يحققه فحسب، وفي هذا المضمار نقول: يمكن تعزيز الدافعية لديه، كما تخييب أمله، بالسهولة نفسها. ولابد للطفل، لاكتساب ثقته بنفسه، أن يكون قد اختبر النجاح: فإن استطاع ارتكاب الخطأ دون توبيخ نفسه لدى استرساله في الخبرات الحياتية، فسيتعلّم أيضاً تحمّل حوادث وخدوش أخرى صغيرة. بمعنى آخر نقول: تكمن مهمّة الأهل الأساسيّة، هنا، بتحميله مهام متعدّدة صغيرة ومسئوليات على مستواه من شأنها تعليمه على تعزيز احترامه لذاته. وهو يحتاج إلى المديح ليس لنجاحه فحسب، بل، خصوصاً، لكل الجهود التي يبذلها. ينبغي أن تكون المدائح الموجّهة إليه متلائمة مع ما قام به ومع إمكاناته، وإلا تفقّد قيمتها. وفي هذا الإطار. يلعب الأهل دوراً غاية في الأهمية في تعزيز نجاح الطفل، دوراً لا يتطلب منهم سوى تأمين مهارات تُجنّبه احتمالات التعرّض لإحباط لا فائدة منه، كاختيار ألبسة صغيرة وغير معقّدة يسهل على الطفل الصغير التعامل معها كالكبار، مثلاً. يمكن القول، أخيراً، إنّ ما يصدق مع الطفل يصدق أيضاً مع الراشد: فالأهل الذين يتسامحون مع بعض الأخطاء المرتكبة من قِبَل أطفالهم (أو يعترفون بحقهم في الخطأ) يمنحون أنفسهم أيضاً حرية ارتكاب بعض الأخطاء بخاصّة وأنه ما من إنسان معصوم من الخطأ.
في الواقع، لقد أفقد الاختلاف شبه الجذري الذي أصاب نمط الحياة المعاصرة إنسان اليوم معظم القواعد والقوانين والقيم (الاجتماعية والأخلاقية والدينية والفكرية...) التي كان يستقي منها أصول تصرّفاته ومراجعها لكن دون تقديم البديل له عنها، مما اضطرّه لبذل جهد فردي متزايد بهدف تحقيق عملية الاختيار الحر والواعي المفروضة عليه للتكيّف مع بيئته الاجتماعية.
وقد أصاب هذا الاختلاف، بالدرجة الأولى، مفهوم الطفولة الذي شهد اختلافاً موازياً للتغيرات والتطورات الحاصلة على الصعيد الحياتي: فلقد تغيّر مفهوم «براءة الطفولة» المعتبرة كفردوس أرضي مستقل عن مشاغل الحياة ومتاعبها، ليصبح مفهوماً ديناميكياً متطوراً تختلف مقوماته باختلاف مرحلة العمر، التي يمر بها الإنسان، ككائن بشري: فالمقومات أصبحت، اليوم، إعدادية - تدريبية بعد أن كانت حدسيّة - تلقائية، ولابد للمربّي المعاصر من احترامها إن شاء تأمين الإطار التربوي اللازم للطفل كي يصبح كائناً اجتماعياً.
لكن هذا المربّي (الأهل، بشكل خاص) يواجه اليوم، وبشكل مواز للوقائع الدائمة التجدد على الخط التربوي، العديد من الإشكاليات التربوية، التي تعترض مهمته كمربٍّ، تأتي في مقدمتها كيفية نقل القواعد الاجتماعية (علاقته كفرد مع القانون الاجتماعي بوجه خاص) إلى هذا الطفل. هذه المسألة لم يتم طرحها منذ عقود، لا بل منذ قرون ، إذ كانت هذه العلاقة مع الطفل علاقة قوّة تندرج ضمن إطار ثقافي - اجتماعي متكامل حيث عليه الطاعة، وحيث أذى الجسم لم يكن غائباً. تغيّر هذا الواقع، شيئاً فشيئاً، بعد ثورة مايو 1968 التي شهدت تحركات الطلاب في مدينة باريس ضد الاخلاقيات القديمة بشكل خاص، فأصبح الحوار مفضّلاً، والعلاقة علاقة ثقة، وتفسير ما هو مطلوب من الطفل واجباً وعلاقة القوة مع الطفل مرفوضة.
لكن المشكلة كمنت في أن ممارسة هذا النمط التربوي تطلّبت المزيد من الوقت، من التعرّف على الطفل ومن التفاعل بين الأهل والمدرّسين: ذلك أمرّ أكثر إنسانية وبناء لنمو الطفل وتطوّره، لكن يصعب تحقيقه، في الواقع، فهم البعض أن مبدأ احترام الطفل، الآخر والقواعد الاجتماعية الذي تمّت المناداة به كبديل عن التسلّط السائد سابقاً يعني أن لهذا الطفل كل الحقوق مقابل القليل من الواجبات.
على الطفل، ركيزة المستقبل، تعلّم كل ذلك كي يصبح راشداً سوياً وعضواً فاعلاً في مجتمعه، يشكّل هذا التعلّم صلب العملية التربوية التي تبدأ ضمن الإطار العائلي ثم تُستكمل ضمن إطار المدرسة والمجتمع الأكبر.
ما المقصود بالتربية؟
إنها عملية تبادل حقيقي بين المربِّي والمربَّى حيث يتربّى الآباء وينضج كيانهم كوالدين من خلال علاقتهم التربوية بأبنائهم، وهي ضرورية، إذ دونها، من غير الممكن لصغير الإنسان الذي يولد غير مكتمل، حتى على المستوى البيولوجي، أن ينمو ويتطور. ولقد قيل عن حق «إن الأبوّة والأمومة صيرورة دائمة»، مما يعني احتمال أن تتطوّر مواقف الوالدين، سلباً كما إيجاباً، تبعاً لعلاقتهما مع الطفل.
فالمواقف الإيجابية تكمن، عموماً، في مدى إدراك الأهل لمقومات مسئوليتهم التربوية الجسيمة، وهي تفهّمهم للمعاني الكامنة وراء مشاكل الأبناء فيتمكنون، إذ ذاك، من النفاذ إلى كنه المعاناة الحميمة التي يعيشها هؤلاء الأبناء ويصبح موقفهم، بالتالي، بمنزلة نمط سلوكي عام يساعدهم، لا على مواجهة المشاكل وضبطها فحسب، بل، خصوصاً، على تبنّي موقف حسن الإصغاء والتعاطف والتفهّم المعد كموقف اتصالي: إيجابي وفعّال بين البشر.
وعلى العكس، تبدو المواقف السلبية على ارتباط وثيق بغياب مناخ أسري تتصف علاقة الوالدين ضمن إطاره، تبعاً لوصف الطفل، كونها تفتقر للتماسك، للتناغم، للحماية، للعطف، وللإحساس بالطمأنينة، وحسب وصف هذا الطفل، بدا أن هذه الأسرة آذته (وأحياناً بدرجة مرتفعة جداً) معتقدة أنها تساعده فشكّلت، بذلك، عائقاً في طريق نموّه السويّ بدلاً من أن تعمل على توجيهه وتربيته. هذا ما رشح عن البحوث التي حققناها ضمن إطار مجتمعنا، وعن ملاحظاتنا العيادية - العلاجية. وقد بدت هذه المواقف ذات ذيول وانعكاسات نفسية غاية في السلبية على طفلنا وعلى بنية شخصيته المتكاملة، من أهمها: اضطراب تكيّفه مع بيئته، تدنّي احترامه وتوكيده لذاته، نشوء اضطرابات نفسية متنوعة لديه.. إلخ.
أما مقومات المسئولية التربوية الملقاة على عاتق الأهل تجاه الطفل، فالمقصود بها: إحاطته بالحب، معرفة الإصغاء إليه والتحاور معه، أخذ الوقت، إبداء المشاعر، وقايته من المخاطر (الداخلية والخارجية)، دفعه باتجاه الاستقلالية، تقبّل الصراع والتشجيع:
إحاطته بالحب
يعني هذا تقبّله كما هو وإظهار ذلك له. فالطفل / المراهق يحتاج، كي يكبر، لهذه الطمأنينة الضرورية لنموّه، لتعزيز ثقته بنفسه وللتعرّف على نقاط الضعف والقوة لديه بخاصة وأن الأهل يعبّرون عن حبّهم، أحياناً، بشكل سيئ. لكن، كيف يتم تأمين الحب؟ أفضل طريقة مباشرة لإظهار ذلك له تكمن في التجاور، الدفء والاتصال المباشر به (كحك ظهره بلطف مثلاً، أو توجيه ضربة لطيفة على كتفه.. إلخ، يعرف الأطفال جيداً ماذا يعني ذلك).
ومع الأكبر سناً، قد يأخذ الاتصال أشكالاً أخرى: لايزال المراهق - فتى وفتاة - بحاجة لأن يأخذه الأهل بين ذراعيهم كي يطمئن، حتى وإن أبدى رفضه لذلك. من المهم، عندئذ معرفة التقاط اللحظات المناسبة والاستفادة منها.
ثم إن منح الطفل بعض الوقت، الاهتمام أو تعزيته، تعتبر بمنزلة أشكال أخرى من حيث إظهار الأهل حبّهم له، ومن المهم جداً أن يقولوا له إنهم يحبّونه وإنهم فخورون به فلا يقتصر ذلك على المناسبات، حيث يحصل الطفل على علامات جيدة، أو يطيع الأوامر أو.. فحسب، مثلاً.
لكن إحاطته بالحب لا تعني أنه لا يحق للراشد وضع حدود أو تحديد ممنوعات لولدهم (طفل/مراهق) بل على العكس إذ، في الحياة كما أثناء اللعب، هناك قواعد لابد من احترامها، إنما يجب عدم الإفراط في إصدار الأوامر والاكتفاء بالضروري منها، وتجنّب التحريم والمنع ما أمكن وعدم اللجوء إليهما إلا حين تقتضي الضرورة ذلك. كل ذلك يساعد الطفل على تقبّلهما لأنه يعلم، عن طريق الخبرة، أن هذا التحريم هو وليد اعتبارات وجيهة لا وليد موقف والدي عام.
وحين يتم تثبيت هذه الحدود. لابد لهم، كأهل، من احترامها لتعزيز مصداقيتهم بنظر الطفل: فإعطاؤهم توجيهات وأوامر لا تكون مطابقة لتصرّفاتهم الفعليّة يضيّع الولد بين واقع امتثاله لأوامرهم هذه وواقع محاكاته لتصرّفاتهم الحياتيّة، بخاصّة وأن الوالدين يشكّلان مثالاً أعلى يقتدي به. شكّل ذلك، في الحقيقة، السبب الجوهري الذي دفع بطفلنا في طريق الضياع والتذبذب (هذا ما تبيّن لنا في ضوء تفاعلنا مع عائلاتنا وعبر البحوث التي قمنا بتحقيقها)، فاحترام ما نفرضه كأهل (أي أن يكون سلوكنا متلائماً مع ما نطلبه من الطفل) يعزّز مصداقيتنا ويمنح الطفل الشعور بأننا نأخذه على محمل الجد.
والأوامر يجب أن تُعطى بلهجة حواريّة حازمة لا تحت شكل أوامر جامدة - تسلّطية كي لا يؤدّي تقيّد الطفل بها إلى شلّ مبادرته الشخصية، ولأن الحوار، وحده، يدفعه للإحساس بأنّ ما يقوم به هو نتاج خياره الحر والشخصي. ولدى إصدار الأوامر الموجّهة إليه، يجب محاولة تقييم شخصية الولد. لطالما لفت انتباهنا استفحال العناد عند العديد من الأطفال حين كان الأهل يتوعدّونهم بعبارات لا تخلو من التحقير.. المرفقة أحياناً بالضرب، لكنهم سرعان ما كانوا يلجأون لسلوك مغاير (أي تنفيذ ما يُطلب منهم) لدى توجّه المربّي نحوهم بروح من التقييم لذاتهم ولكيانهم.
وحين يخالف الطفل قاعدة معيّنة، من المهم أن يقوم المربّي - الراشد برد فعل حازم ودون مناقضة نفسه فالطفل يشعر بالطمأنينة إن احترم الأهل والأشخاص الآخرون المكلّفون برعايته القواعد نفسها (المنطق نفسه)، حتى وإن اختلفت أنماط تطبيقهم لها، فقد لا يكفي، أحياناً، قول «لا» أو توجيه تنبيه واضح، إذ تفرض الضرورة تحقيق قصاص (عقاب) معيّن، وهنا ينبغي: أن يأتي هذا القصاص مباشرة بعد سلوك الطفل الذي يفهم معنى العقاب المنطقي، أن يتم شرح السلوك الخاطئ (فيفهم الطفل نوع الخطأ الذي ارتكبه)، وإن يتم التركيز على أن السلوك الذي قام به الطفل هو السيئ وليس هو كشخص.
وفي مجال العقاب، أيضاً، لابد للأهل أن يحترموا بعض القواعد، يأتي في مقدّمتها الابتعاد، ما أمكن، عن العنف واستخدام القوّة (الضرب أو العنف النفسي كالتحقير أو استخدام الكلمات النابية..). فالقول «لا تربية من دون إكراه «لا يعني استخدام العنف، مهما كان نوعه، بل استخدام الحزم والحسم المتّسمين بالحب والسلطة «أي عدم اعتماد التساهل المفرط أو، على العكس، التسلّط».
ثم، لابد من احترام رأي الطفل إن كان محقاً، بخاصّة وأن العديد من المواقف التي يتبنّاها تنطلق من اعتزازه بأهله ورغبته في أن يكونوا الأفضل..، مع حسم الأمر بشكل حازم إن تمادى هذا الطفل في موقفه، خصوصاً إن بدا هذا الموقف ناجماً عن رغبته في إخضاعهم.
الإصغاء له
ويعني الاهتمام به والسهر على فهم ما يشغل باله: فالطفل أو المراهق المستغرِق في عملية النمو والكِبر وإيجاد مكانه في العالم، يكتشف كل يوم تجارب واكتشافات جديدة. ولإعطاء كل ذلك معناه، فهو يحتاج إلى أذن أهله الصاغية، لذا، على كل عائلة إيجاد - وبشكل منتظم - الفرص الملائمة للتحاور معه، تحاوراً قد يأخذ شكل نصائح عائلية أو شكل لحظات طقسية (أي تتكرّر) خلال وجبات طعام مشتركة أو قبل النوم أو.. إلخ، ومع الأصغر سناً، من الممكن إحلال عادة المناقشة في أوقات معيّنة يراها الأهل مناسبة.
التفرّغ له
ويعني ذلك اللعب، المحادثة، القراءة، اكتشاف العالم مع الطفل.. إلخ، فالطفل يتعلّم كمّاً من الأشياء عبر النشاطات العائلية، وعلى الأهل الاستفادة منها قدر الإمكان. كثيرون هم الأطفال والمراهقون الذين عبّروا عن تمنّيهم تمضية وقت أطول مع أهلهم. ويمكن تحقيق ذلك بفضل مثل هذه النشاطات المشتركة.
لكنّ تكريس الوقت اللازم للطفل أو المراهق لا يعني، بالضرورة، القيام بنشاطات مكلفة، فالأطفال يقيّمون كثيراً الأنشطة البسيطة المشتركة بينهم وبين الأهل (كالقيام معاً بنزهة في الغابة، حضور برنامج معين ومناقشته معاً، تخصيص وقت معيّن للمناقشة والحوار.. إلخ) لأنها، بنظرهم، مناسبات مهمة لقضاء الوقت معاً.
وفي مجرى الحياة اليومية، يحتاج الطفل أو المراهق للاهتمام وللوقت: يمكن أن يجمع الأهل، هنا، بين المفيد والمسلّي أو المُسِر كالطلب منه، على سبيل المثال، مساعدتهم في نشاطات (منزلية أوغير منزلية) يقدّمونها له كمهمات مثيرة للذّة، يتقاسمونها ويُحرّرون لها فترات كانت تكرّس لحضور التلفزيون، مثلا.. ذلك أمر يقدّره الطفل أو المراهق كثيراً.
ثم إن انتباه الأهل للطفل يفرض نفسه، بشكل خاص، حين يحتاج هذا الأخير إليهم: حين يجد صعوبة في إتمام واجباته أو حين يتعطل دولاب دراجته.. مثلاً. لكن، تجدر الإشارة هنا لوجوب عدم إحساس الأهل الذين لا يملكون الوقت الكافي للاهتمام بأطفالهم بسبب واجباتهم المهنية بالذنب: فنوعيّة الوقت الذي يقضونه إلى جانب طفلهم، لا مدّته، هو الأمر الأهم، وبإمكان الجدود، الأقارب أو الأصدقاء أو.. التعويض عن الوقت المتبقّي.
هذا، ويعتبر العديد من الأهل أن رسم الحدود والالتزام بها يشكّل المهمة الأكثر أهمية، لكن الأكثر صعوبة، بخاصّة وأن الطفل والمراهق هما «أبطال» في فن اختبار صبرهم وتماسكهم كوالدين، يفرض رسم هذه الحدود نفسها، في الحقيقة، لسببين: لحماية الطفل من المخاطر الداخلية (في المنزل) ومن مخاطر العالم الخارجي، ولأن القواعد التي يفهم معناها تؤمّن له الإحساس بالطمأنينة.
مساعدة الطفل على إبداء مشاعره
الحب، الفرح، الحزن، الهمّ، الغضب.. كلّها مشاعر تشكّل جزءاً من الحياة العائلية، والأطفال يعبّرون عن مشاعرهم بأشكال شديدة التنوّع: يقوم البعض بملاطفات في حين يقدّم آخرون رسماً حقّقوه، إلى جانب آخرين يعجزون عن القيام بأي تعبير انفعالي.. إلخ.
ومن المهم للطفل، لسير نموّه بشكل جيّد، فهم هذه المشاعر وتعلّم كيفية إدارتها، كما لابد لهم من إخراجها (التفريج عنها)، أكانت سلبيّة أم إيجابيّة، مع الاحتفاظ طبعاً بقواعد التهذيب، لابد للأهل من مساعدتهم على تحقيق ذلك، فالزمن الذي كان يقضي على الصبيان ألا يبكوا وعلى الفتاة ألا تغضب قد ولّى. أيجد الراشدون أن مظاهر تعبير الطفل عن مشاعره هي بغير مكانها؟ بإمكانهم تعليمه كيفية تعديلها وضبطها، مع الانتباه دائماً: لوجوب أن يترافق ذلك مع إفهامه بأن سلوكه، لا شعوره أو شخصه، هو غير ملائم، لوجوب أخذ كل طفل على محمل الجديّة، ولوجوب الأخذ بالاعتبار أن تأثّره بالكوارث (الكبيرة والصغيرة) يختلف عن ذلك المميّز له كراشد. وأفضل استجابة أوليّة قد يقومون بها، في هذا الإطار، تكمن في رد فعلهم الهادئ، على أن تُتبع بشرح ما يمكنه فعله لتعديل مشاعره.
ينبغي التنويه، هنا، لواقع غاية في الأهمية، يفضّل بعض الفتية الاحتفاظ بما يؤثر فيهم لأنفسهم، وعلى الأهل الانتباه لكيفية التعامل مع ذلك: فإن اختلف سلوك الطفل أو المراهق بشكل محسوس عمّا كان عليه سابقاً، فعليهم البحث عن السبب الكامن وراء ذلك وإرساء جو من الثقة بينهم وبينه، إذ حتى الطفل الخجول أو المنطوي على ذاته، يجب أن يتمكن من البوح عمّا يقلقه.
في عالم المشاعر، أيضاً، يتعلّم الصغار من الكبار، بإمكان الأهل، لا بل عليهم، إظهار مشاعرهم وتفسيرها بكلمات يفهمها الطفل، فهو يملك هوائيات تجعله يلتقط أي شيء يحدث، وما يزعجه هو إحساسه بأن هناك شيئاً ما يحدث لكنّ أهله لا يحدّثونه عنه، من المعلوم أن الأهل، كما الطفل، ليسوا بمنأى عن غضب يكون بغير موضعه، ومن المهم أن يعتذروا عن ذلك، فالاعتراف بخطأ تم ارتكابه لا ينم عن ضعف، فلقد قيل «الاعتراف بالخطأ فضيلة».
وقايته من المخاطر (الداخلية والخارجية)
يتعرّض الطفل، في مجرى حياته اليومية، لشتّى أنواع المخاطر: الداخلية (في المنزل، مثلاً، حيث قد يلعب بالكبريت ويحرق البيت، قد يوقع على نفسه أشياء ثقيلة أو يلعب بالسّكين فيؤذي نفسه.. إلخ)، والخارجية (بخاصّة مخاطر الطريق: لابد من معرفة أن هذه المخاطر تشكّل، في مرحلة ما بين 15-25 سنة، السبب الأوّل المؤدّي للوفاة في أيامنا الحاضرة).
كيف يتحدّث الأهل عن كل ذلك مع الطفل أوالمراهق؟ ذلك أمر معقّد إذ من غير الممكن ذكر الموضوع بالطريقة نفسها مع طفل في الثالثة وآخر في التاسعة أو مع مراهق في السادسة عشرة من عمره.
فضلاً عن ذلك، يجب ألا ينسوا أن الطفل لا يدرك، كالراشد، تلك المخاطر التي قد يتعرّض لها: فالرؤية والسمع، كما والقدرة على التركيز وإدراك سرعة السيارات وأن ما يقوم به محفوف بالخطر تختلف عند الطفل عن تلك المميّزة للراشد.
والأهم من كل ذلك يبقى واقع أنّ الأهل لا يقدّمون أنفسهم، في الكثير من الأحيان، مثالاً جيّداً يُحتذى به، بخاصّة على مستوى القيادة وعبور الطريق: نراهم، مثلاً، يعبرون من رصيف إلى آخر خارج إطار الحدود المرسومة وحين لا تكون إشارة المرور خضراء، أو يستخدمون الهاتف وهم يقودون.. إلخ.
دفعة باتّجاه الاستقلالية
لدفع الطفل باتجاه الاستقلالية، لابد من حبّه والتعرّف عليه، فهو «يحتاج إلى بعض لحظات من الحرية كحق له يديره على هواه» إذ نراه، منذ عامه الأول، يتجّه أكثر فأكثر نحو الاستقلالية: يريد الأكل لوحده، يبتعد (ينفصل) عن أهله لفترات تطول تدريجياً، وفيما بعد، يتمنّى إدارة أوقات فراغه وفترات خروجه ومصروفه الخاص.. إلخ. هذه الاستقلالية ضرورية له لتحمّل المسئوليات التي ستلقى على كاهله في المستقبل، لكنّ التساؤل التالي يفرض نفسه: كيف نفصل بين الإفراط بالتسامح والتساهل وبين التشجيع على الاستقلالية؟
تُكتسب الاستقلالية بشكل تدريجي ودون بذل جهد كبير، إذ يكفي أن يولي الأهل انتباههم للوقائع التالية، من بين وقائع أخرى: يتعلّم الطفل المنخرط في يوميات العائلة مجموعة من الأشياء لوحده إن تسنّى له مشاركة والدته أو والده بها سابقاً: ففي العمر المدرسي الابتدائي، يتوصّل الطفل لإدارة مصروف الجيب (كميّة متواضعة) المعطى له كل أسبوع، مثلاً، وفيما بعد، يتدبّر المراهق أمره مع كمية من المال تُعطى له كل شهر قد تساهم في دفع المصاريف المدرسية (شراء الملابس.. إلخ).
والأذواق تختلف من جيل لآخر بشكل مهم (إن من حيث أنواع التسلية أم من حيث المظهر الخارجي أو الأصدقاء أو تزيين الغرفة.. إلخ)، لذا، لابد من ترك مجال اختيار ذلك للطفل، بنفسه، طبعاً ضمن احترام قواعد عامّة يمليها الأهل.
وبالنسبة للتسامح نقول، يبلغ حدوده مع بداية تعرّض صحّة الطفل وراحته وإحساسه بأنه على ما يرام للخطر: فبدء المراهق بالتدخين أو بتناول الكحول... إلخ لا يدخل، مثلاً، ضمن إطار شروط النمو الجيّد، وخلال فترة البلوغ، وهي لحظة حاسمة في النمو، يطالب الفتية بدرجة كبيرة من الاستقلالية قد تصل لحدود التمرّد على الأهل. على الأهل، هنا، إفهامهم بأنه ليس هناك حريّة من دون حدود ومساعدتهم على اكتشاف طريقهم إذ يتعلّق الأمر بانتقالهم إلى سن الرشد، وإلا تعرّض هؤلاء الفتية فيما بعد، لعدم معرفة ماذا يفعلون وبالتالي، للضياع.
تقبّل احتمالات الصراع
الشجارات موجودة في كل العائلات ولا تحمل أي طابع درامي، وتوكيد الذات (قول كلا بشكل خاص) يعني، بالدرجة الأولى، إيجاد تسويات والتصالح مع الذات، كما تعني تمنّي الإقناع وإظهار القدرة على تحمّل الضغوط وعلى الاهتمام.
وهي، أي الشجارات، تسمح للطفل بتنمية طاقات اجتماعية مهمة لا يتم اكتسابها في الفراغ أو بفعل معجزة. فلكي تُحلّ الصراعات ولا تتسبب بضغوط إضافيّة، لابد من التقيّد ببعض القواعد، لكن، بشكل مواز، لابد من السماح له بإظهار مشاعر سلبية كالعدوانية أو العضب.. إلخ، يتم استيعابها وتوجيهها من قبَل الأهل بالاتجاه السليم دون اللجوء إلى التوبيخ أو التعنيف مثلاً. هذا ويحق للأطفال، مثلاً، الشجار فيما بينهم دون تدخّل الراشدين، لكن، حين تدور الشجارات، وبشكل غير عادل، على حساب الضعفاء يتدخّل الراشد، عند ذلك، لتهدئة الأمر والدعوة للاحترام المتبادل، بعاطفة لكن بوضوح كبير. لكن، إذا كان من المهم تقبّل شجارات محتملة، من المهم أيضاً، معرفة إصلاح ذات البين حين يكون الشجار القائم بين الأطفال من دون مخرج. وقد يتدخل الأهل محاولين، بشكل خاص، إصلاح عالمهم الصغير قبل النوم، مثلاً، كي يتمكّن كلٌّ منهم من النوم بهدوء.
التشجيع
كيف يتمكّن الأهل من تشجيع الطفل أو المراهق؟
يود الطفل أن يكون محبوباً كشخص وليس فقط للنجاح الذي يحققه فحسب، وفي هذا المضمار نقول: يمكن تعزيز الدافعية لديه، كما تخييب أمله، بالسهولة نفسها. ولابد للطفل، لاكتساب ثقته بنفسه، أن يكون قد اختبر النجاح: فإن استطاع ارتكاب الخطأ دون توبيخ نفسه لدى استرساله في الخبرات الحياتية، فسيتعلّم أيضاً تحمّل حوادث وخدوش أخرى صغيرة. بمعنى آخر نقول: تكمن مهمّة الأهل الأساسيّة، هنا، بتحميله مهام متعدّدة صغيرة ومسئوليات على مستواه من شأنها تعليمه على تعزيز احترامه لذاته. وهو يحتاج إلى المديح ليس لنجاحه فحسب، بل، خصوصاً، لكل الجهود التي يبذلها. ينبغي أن تكون المدائح الموجّهة إليه متلائمة مع ما قام به ومع إمكاناته، وإلا تفقّد قيمتها. وفي هذا الإطار. يلعب الأهل دوراً غاية في الأهمية في تعزيز نجاح الطفل، دوراً لا يتطلب منهم سوى تأمين مهارات تُجنّبه احتمالات التعرّض لإحباط لا فائدة منه، كاختيار ألبسة صغيرة وغير معقّدة يسهل على الطفل الصغير التعامل معها كالكبار، مثلاً. يمكن القول، أخيراً، إنّ ما يصدق مع الطفل يصدق أيضاً مع الراشد: فالأهل الذين يتسامحون مع بعض الأخطاء المرتكبة من قِبَل أطفالهم (أو يعترفون بحقهم في الخطأ) يمنحون أنفسهم أيضاً حرية ارتكاب بعض الأخطاء بخاصّة وأنه ما من إنسان معصوم من الخطأ.